ولدتُ في دمشق عام 1982، في قلب حيّ ركن الدين، على سفح جبل قاسيون، حيث كانت السماء تعانق المدينة بحنوّ، وياسمين الحارات يهمس للعابرين بروائح العشق والذكريات. ما زلتُ أذكر رائحة الياسمين التي كانت تعبق في بيتنا، ممتزجةً بذلك المشهد الساحر لدمشق القديمة، وهي تزدحم ببيوتها المتراصة، تتلألأ بين جنباتها مآذن خضراء، كأنها تحرس المدينة وتحفظ أسرارها. كان لذلك المشهد وقعٌ سحري على روحي، حيث امتزجت فيه رائحة الورد الجوري بنظرةٍ مهيبة على المدينة، صنعت في داخلي إحساسًا لا يزال ينبض في ذاكرتي حتى اليوم.
كبرتُ قليلًا، وانتقلنا إلى منطقة الحرجلة، حيث السهول تمتد كأحلامٍ خضراء، وتفترش الأرض أزهارٌ ربيعيةٌ ناعمة، تعبق بروائحها كأنها قصائدُ حبٍّ عابقة. هناك، كنتُ أسير يوميًا خمسة كيلومترات إلى مدرستي، أعبر مروجًا من شقائق النعمان، تلك الزهرة التي كانت تنحني لنسيم الفجر، وكأنها تهمس له بأسرار العابرين. كانت رائحتها تعانقني في كل صباح، تلتصق بملابسي المدرسية، وتحفر في روحي ذكرى أبديةً لكل صباحٍ مشبعٍ بندى الحبّ والبراءة.
لاحقًا، انتقلنا إلى عين الفيجة في وادي بردى، تلك الجنة المختبئة في أحضان سهل الزبداني. كان الربيع هناك أكثر من مجرد فصل؛ كان سيمفونيةً تعزفها أزهار المشمش والكرز والجارنك، تفوح رائحتها كأنها وعدٌ بالسعادة. في تلك الجنة الصغيرة، عملتُ طاهيًا في مطاعمها، وهناك وُلد عشقي الأول: الروائح. كانت البهارات تروي لي قصص الأرض، والتوابل تحملني إلى مدنٍ بعيدة، وبدأت أكتشف أن لي أنفًا لا يخونني، قادرًا على تمييز أدق النكهات، ومعرفة ما يحتاجه الطبق ليصبح قصيدةً من النكهة. أما الشتاء هناك، فكان له رائحةٌ لا تشبه سواه؛ كان المطر حين يلامس التربة الكلسية يصنع عطرًا من نوعٍ آخر، عطرًا يلامس الروح، ويبعث فيها طمأنينةً دافئة.
عندما انتهت رحلتي في الدراسة الجامعية – أو ربما علّقتها الظروف حينها – حملتني الأقدار إلى دبي، حيث بدأت حياتي من جديد. في البداية، عملتُ في متجر صغير للألبسة، قبل أن تأخذني الصدفة إلى عالمٍ آخر تمامًا: عالم العطور. التحقتُ بشركة باريس غاليري، إحدى كبريات دور العطور، وهناك تعرّفت على أسرار هذا الفن الآسر. لم يكن الأمر مجرد بيع للعطور، بل كان دخولًا إلى عالمٍ من السحر والخيال، حيث لكل عطر قصة، ولكل رائحة حكاية.
في تلك الفترة، خضعتُ لتدريباتٍ على يد أحد أعظم العطارين في العالم، رجلٌ بدأ رحلته في جيرلان، ثم أسس داره الخاصة، روجا للعطور، التي أصبحت اليوم واحدةً من أرقى العلامات العطرية في العالم. تحت إشرافه، تعلمتُ أسرار العائلات العطرية، وبدأت أستعيد كل ذكرى سكنتها رائحةٌ جميلة في حياتي، من ياسمين دمشق، إلى شقائق النعمان في الحرجلة، إلى عطر الكرز في الزبداني، حتى رائحة المطر الأولى على أرضٍ اشتاقت للعناق.
لم أعد مجرّد بائعٍ للعطور، بل أصبحت عاشقًا لهذا العالم، باحثًا عن الذكريات في قارورة، وعن الزمن في قطرة عطر. واليوم، بعد سنواتٍ من الشغف والبحث، أصبحت صانعًا لأكثر من علامة عطرية في الإمارات، أبتكر وأمزج وأخلق عطورًا تحكي قصصًا، لعلها تحمل معها شيئًا من عبق الذكريات، وتعيدني يومًا إلى شوارع دمشق التي لم أزرها منذ خمسة عشر عامًا، لكنها تسكنني كل يوم.
لأن العطر ليس مجرد رائحة… بل حنينٌ يتجسد.
Discussion about this post